المادة    
وبذلك نصل إلى النقطة الحاسمة جداً في هذا؛ وهي الإيمان بنظرية التطور بشقيها: التطور العضوي, والتطور المعرفي أو العملي. ‏
  1. نظرية التطور العضوي

    التطور العضوي: المقصود به نظرية تشارلز داروين وهي النظرية المشهورة والمعروفة في الكائنات العضوية؛ أنها بحسب قانون الانتخاب الطبيعي تطورت، وأن البقاء للأقوى أو للأصلح، وأن الإنسان من أصل حيواني واحد أو متعدد اختلفوا في هذا اختلافاً شديداً, وهي نظرية كلما تقدم الزمن يبطلها أكثر فأكثر, ولا يهمنا الآن إبطالها من ناحية علمية فقط؛ بل فيما يتعلق بهذا الموضوع نقول: إن العلماء في خارج علم الأحياء ومنه أيضاً -الجميع الآن- جعلوها محل شك، وهي لم ترق يوماً من الأيام إلى أن تكون حقيقة, وإنما هي افتراضية أو نظرية لم تثبت بعد.
    لكن الدلائل الموجودة الآن والتي اكتشفت في السنوات الأخيرة في علم الوراثة والرموز أو الشفرات الوراثية والجينات وأمور كثيرة جداً؛ تؤكد أن البشر جميعاً من أصل واحد، وأنهم من آدم عليه السلام.
    بمعنى آخر -وإن شاء الله نأتي بهذه النقول في موضوعها- كثير منهم يقول: لم يبق هناك أي شك بأن ما جاءت به الأديان عن الإنسان الأول, وعن حقيقة الجنس البشري ووحدته هي حقيقة! فقط الإشكال في المدة، والمدة لا مشكلة, نحن بينّا في الحلقات الماضية أن الخطأ جاء في التوراة وغيرها في المدة؛ لكن أن الناس خلقوا من آدم و حواء وأن أصلهم واحد أي وحدة الجنس البشري، وأنه خلق مكرم فضله الله تعالى وكرمه؛ فهذه أصبحت -والحمد لله- حقيقة واضحة.
  2. نظرية التطور المعرفي

    نرجع للنظرية الأخرى وهي مرتبطة بهذه؛ وهي نظرية التطور العلمي أو المعرفي التي وضعها أوجست كونت -وهو باحث فرنسي- في القرن التاسع عشر.
    التطور هذا يقوم على أن البشرية مرت بثلاث مراحل:
    مرحلة السحر أو الخرافة والهمجية.
    والمرحلة الثانية: مرحلة الدين.
    والمرحلة الثالثة: مرحلة العقلية أو الوضعية.
    وهذه أيضاً نظرية تصادف رواجاً كبيراً جداً عند كثير من الناس؛ فيتصورن أن الإنسان القديم الذي كان يسكن الغابة أو يسكن في الأكواخ هو إنسان يؤمن بالسحر والخرافة، وفي العصور الوسطى لما تطورت الحضارة قليلاً وصار يركب الجمل ويستخدم بعض الأمور فهذا عصر الدين، والآن مع التقدم العلمي والتقني فالعصر عصر الإلحاد وعصر الوضعية.
    التسذيج والتبسيط في العلاقة ما بين الإيمان وما بين الشكل أو الوجود والشكل المعيشي أو الحضاري للإنسان إذا وصل لهذه الدرجة؛ فكثير من الناس يصدقهم؛ خاصة أن أديان الهند وأديان الصين والدين الكتابي نفسه اليهودية و النصرانية تَبَيَّن بطلانها، ومع ضعف المسلمين وتقهقرهم وتأخرهم راجت هذه العقيدة في أكثر العالم الإسلامي مع الأسف؛ حتى أن كثيراً من الكليات في العالم الإسلامي نفسه تَدْرس هذا الكلام، وكأنها مراحل حقيقية مرت بها البشرية! وكأن الناس تطوروا من الشرك إلى التوحيد، وكأن التوحيد -الذي نحن ندين به والحمد لله تعالى- إنما جاء عن طريق بشر غير أنبياء -عن طريق بشر عاديين- وعن طريق ملوك وعلماء وباحثين ومفكرين.
    ولذلك دخلت الفلسفات والوثنيات الكثيرة؛ حتى في الفكر الإسلامي -سنوضح هذا إن شاء الله في حلقة مستقلة أو أكثر عن اليونانيين وجاهليتهم وهمجيتهم, ومع ذلك فإن الفكر اليوناني رائج مع الأسف الشديد, وغيره من الماديات, والأفكار الإلحادية الحديثة دخلت إلى المسلمين من خلال هذا الإيمان الساذج البسيط؛ بأن البشرية كما تطورت في الناحية المعيشية والناحية المادية، فهي أيضاً تطورت في الناحية العقلية وفي الناحية الإيمانية التي هي أعظم من ذلك وأعمق، والتي هي الميزة التي ميز الله تبارك وتعالى بها الإنسان وهو أنه مؤمن بالله تعالى، وبهذا الإيمان يمكن أن يتغير الشكل المعيشي أو البيئة التي يعيش فيها حضارياً، لكن لا يتغير أبداً شعوره وإيمانه بالله سبحانه وتعالى، وبحاجة إلى معبود يعبده فيضِل يعبد غير الله وينحرف في ذلك؛ لكن الأصل هو التوحيد في البشرية, في كل الجنس البشري الأصل أنهم كانوا قروناً جميعاً على التوحيد، والأصل أيضاً في كل إنسان الفطرة الصحيحة؛ فهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة)؛ فكل مولود أياً كان يولد على الفطرة: (( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ))[الروم:30]؛ لكن بعد ذلك التربية تُغيره؛ (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه), ولم يقل: (يسلمانه)؛ لأنه أصلاً ولد على الإسلام الذي يولد عليه كل إنسان، وهو معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده ففي أي وضع بيئي ولد وفي أي وضع حضاري نشأ، فهذه هي العقيدة التي يعتقدها ويجب أن يؤمن بها كل مسلم.
    المقصود من هذا هو أن كلا النظريتين نظرية التطور العضوي لـداروين، ونظرية التطور الفكري لـأوجست كونت أثرتا وتؤثران في النظرة إلى التاريخ بهذا الشكل، كما أن النظريات التاريخية تؤثر تأثيراً كبيراً فيها؛ فكأن كلاً منهما يقوي الآخر مع أن كل منهما ينتقد الآخر أيضاً، وبذلك أصبحت النظرية أو العقيدة السائدة والغالبة في معظم المناهج الدراسية والمنهجية وفي معظم الأفكار البشرية في العالم اليوم؛ تقوم على أن الإنسان مرَّ بعصر همجي، ومرحلة لا تديُّن أو مرحلة الدين البسيط الساذج البدائي، ثم انتقل منها إلى مرحلة الأديان المعروفة؛ منها طبعاً البراهمية البوذية، ثم الأديان الكتابية: الزرادشتية و اليهودية و النصرانية والإسلام، ثم إلى المرحلة الحديثة -كما يزعمون- مرحلة الفكر الوضعي أو الفكر المادي أو الفكر العلمي، الذي يقتضي في نظرهم وفي نظر كثير منهم أن الإنسان لا يحتاج إلى الإيمان بالغيب أو ما أشبه ذلك.